كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال الطيبي: وبهذا يظهر أن قياس ذلك على الصدقة التي اشتريت من الفقير غير صحيح، والمدار عندي اختلاف جهتي الملك فمتى تحقق لم تبق شبهة في الحل، وقد صح أن بريرة مولاة عائشة رضي الله تعالى عنها جاءت بعد العتق بلحم بقر فقالت عائشة للنبي صلى الله عليه وسلم: هذا ما تصدق به على بريرة فقال عليه الصلاة والسلام: «هو لها صدقة ولنا هدية» فأشار عليه الصلاة والسلام إلى حله لآل البيت الذين لا تحل لهم الصدقة باختلاف جهتي الملك فتأمل، وللمكاتبة أحكام كثيرة تطلب من كتب الفقه.
{وَلاَ تُكْرِهُواْ فتياتكم عَلَى البغاء} أخرج مسلم وأبو داود عن جابر رضي الله تعالى عنه أن جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها مسيكة وأخرى يقال لها أميمة كان يكرههما على الزنا فشكتا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان لعبد الله بن أبي جارية تدعى معاذة فكان إذا نزل ضيف أرسلها له ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله تعالى عنه فشكت ذلك إليه فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم فأمره بقبضها فصاح عبد الله بن أبي من يعذرنا من محمد صلى الله عليه وسلم يغلبنا على مماليكنا؟ فنزلت، وقيل: كانت لهذا اللعين ست جوار معاذة ومسيكة وأميمة وعمرة وأروى وقتيلة يكرههن على البغاء وضرب عليهن ضرائب فشكت ثنتان منهن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت.
وقيل: نزلت في رجلين كانا يكرهان أمتين لهما على الزنا أحدهما ابن أبي، وأخرج ابن مردويه عن علي كرم الله تعالى وجهه أنهم كانوا في الجاهلية يكرهون إماءهم على الزنا يأخذون أجورهن فنهوا عن ذلك في الإسلام.
ونزلت الآية، وروي نحوه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وعلى جميع الروايات لا اختصاص للخطاب بمن نزلت فيه الآية بل هي عامة في سائر المكلفين.
والفتيات جمع فتاة وكل من الفتى والفتاة كناية مشهورة عن العبد والأمة مطلقًا وقد أمر الشارع صلى الله عليه وسلم بالتعبير بهما مضافين إلى ياء المتكلم دون العبد والأمة مضافين إليه فقال عليه الصلاة والسلام: «لا يقولن أحدكم عبدي وأمتي ولكن فتاي وفتاتي» وكأنه صلى الله عليه وسلم كره العبودية لغيره عز وجل ولا حجر عليه سبحانه في إضافة الأخيرين إلى غيره تعالى شأنه، وللعبارة المذكورة في هذا المقام باعتبار مفهومها الأصلي حسن موقع ومزيد مناسبة لقوله سبحانه: {عَلَى البغاء} وهو زنا النساء كما في البحر من حيث صدوره عن شوابهن لأنهن اللاتي يتوقع منهن ذلك غالبًا دون من عداهن من العجائز والصغائر.
وقوله عز وجل: {إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا} ليس لتخصيص النهي بصورة إرادتهن التعفف عن الزنا وإخراج ما عداها عن حكمه كما إذا كان الإكراه بسبب كراهتهن الزنا لخصوص الزاني أو لخصوص الزمان أو لخصوص المكان أو لغير ذلك من الأمور المصححة للإكراه في الجملة بل هو للمحافظة على عادة من نزلت فيهم الآية حيث كانوا يكرهونهن على البغاء وهن يردن التعفف عنه مع وفور شهوتهن الآمرة بالفجور وقصورهن في معرفة الأمور الداعية إلى المحاسن الزاجرة عن تعاطي القبائح، وفيه من الزيادة لتقبيح حالهم وتشنيعهم على ما كانوا يفعلونه من القبائح ما لا يخفى فإن من له أدنى مروءة لا يكاد يرضى بفجور من يحويه بينه من إمائه فضلًا عن أمرهن به أو إكراههن عليه لاسيما عند إرادة التعفف وتوفر الرغبة فيها كما يشعر به التعبير بأردن بلفظ الماضي، وإيثار كلمة {إن} على إذا لأن إرادة التحصن من الإماء كالشاذ النادر أو للإيذان بوجوب الانتهاء عن الإكراه عند كون إرادة التحصن في حيز التردد والشك فكيف إذا كانت محققة الوقوع كما هو الواقع، ويعلم من توجيه هذا الشرط مع ما أشرنا إليه من بيان حسن موقع الفتيات هنا باعتبار مفهومها الأصلي أنه لا مفهوم لها ولو فرضت صفة لأن شرط اعتبار المفهوم عند القائلين به أن لا يكون المذكور خرج مخرج الغالب، وقد تمسك جمع بالآية لإبطال القول بالمفهوم فقالوا: إنه لو اعتبر يلزم جواز الإكراه عند عدم إرادة التحصن والإكراه على الزنا غير جائز بحال من الأحوال إجماعًا ومما ذكرنا يعلم الجواب عنه.
وفي شرح المختصر الحاجبي للعلامة العضد الجواب عن ذلك، أولًا: أنه مما خرج مخرج الأغلب إذ الغالب أن الإكران عند إرادة التحصن ولا مفهوم في مثله، وثانيًا: أن المفهوم اقتضى ذلك وقد انتفى لمعارض أقوى منه وهو الإجماع، وقد يجاب عنه بأنه يدل على عدم الحرمة عند عدم الإرادة وأنه ثابت إذ لا يمكن الإكراه حينئذٍ لأنهن إذ لم يردن التحصن لم يكرهن البغاء والإكراه إنما هو إلزام فعل مكروه وإذا لم يمكن لم يتعلق به التحريم لأن شرط التكليف الإمكان ولا يلزم من عدم التحريم الإباحة انتهى، ولعل ما ذكرناه أولًا هو الأولى، وجعل غير واحد زيادة التقبيح والتشنيع جوابًا مستقلًا بتغيير يسير ولا بأس به.
وزعم بعضهم أن {إِنْ أَرَدْنَ} راجع إلى قوله تعالى: {وَأَنْكِحُواْ الايامى مِنْكُمْ} وهو مما يقضي منه العجب وبالجملة لا حجة في ذلك لمبطلي القول بالمفهوم كذا لا حجة لهم في قوله تعالى: {لّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا} فإنه كما في إرشاد العقل السليم قيد للإكراه لا باعتبار أنه مدار للنهي عنه بل باعتبار أنه المعتاد فيما بينهم أيضًا جىء به تشنيعًا لهم فيما هم عليه من احتمال الوزر الكبير لأجل النزر الحقير أي لا تفعلوا ما أنتم عليه من إكراههن على البغاء لطلب المتاع السريع الزوال الوشيك الاضمحلال، فالمراد بالابتغاء الطلب المقارن لنيل المطلوب واستيفائه بالفعل إذ هو الصالح لكونه غاية للإكراه مترتبًا عليه لا المطلق المتناول للطلب السابق الباعث عليه ولا اختصاص لعرض الحياة الدنيا بكسبهن أعني أجورهن التي يأخذنها على الزنا بهن وإن كان ظاهر كثير من الأخبار يقتضي ذلك بل ما يعمه وأولادهن من الزنا وبذلك فسره سعيد بن جبير كما أخرجه عنه ابن أبي حاتم وفي بعض الأخبار ما يشعر بأنهم كانوا يكرهونهن على ذلك للأولاد.
أخرج الطبراني والبزار وابن مردويه بسند صحيح عن ابن عباس أن جارية لعبد الله بن أبي كانت تزني في الجاهلية فولدت له أولادًا من الزنا فلما حرم الله تعالى الزنا قال لها: مالك لا تزنين؟ قالت: والله لا أزني أبدًا فضربها فأنزل الله تعالى: {وَلاَ تُكْرِهُواْ} الآية، ولا يقتضي هذا وأمثاله تخصيص العرض بالأولاد كما لا يخفى.
وسمعت أن بعض قبائل أعراب العراق كآل عزة يأمرون جواريهم بالزنا للأولاد كفعل الجاهلية ولا يستغرب ذلك من الأعراب لاسيما في مثل هذه الأعصار التي عرا فيها كثيرًا من رياض الأحكام الشرعية في كثير من المواضع أعصار فإنهم أجدر أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وقوله تعالى: {وَمَن يُكْرِههُنَّ} إلى آخره جملة مستأنفة سيقت لتقرير النهي وتأكيد وجوب العمل ببيان خلاص المكرهات من عقوبة المكره عليه عبارة ورجوع غائلة الإكراه إلى المكرهين إشارة أي ومن يكرههن على ما ذكر من البغاء: {فِإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لهن كما في قراءة ابن مسعود وقد أخرجها عبد بن حميد وابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عنه لكن بتقديم {لَهُنَّ} على {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ورويت كذلك أيضًا عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، وينبىء عنه على ما قيل قوله تعالى: {مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ} أي كونهن مكرهات على أن الإكراه مصدر المبني للمفعول فإن توسيطه بين اسم إن وخبرها للإيذان بأن ذلك هو السبب للمغفرة والرحمة.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وغيرهما عن مجاهد أنه قال: غفور رحيم لهن وليست لهم، وكان الحسن إذا قرأ الآية يقول: لهنّ والله لهن، وفي تخصيص ذلك بهن وتعيين مداره على ما سمعت مع سبق ذكر المكرهين أيضًا في الشرطية دلالة على كونهم محرومين من المغفرة والرحمة بالكلية كأنه قيل: لا لهم أو لا له ولظهور هذا التقدير اكتفى به عن العائد إلى اسم الشرط اللازم في الجملة الشرطية على الأصح كما في المغني، وقيل: في توجيه أمر العائد: إن {إِكْرَاهِهِنَّ} مصدر مضاف إلى المفعول وفاعل المصدر ضمير محذوف عائد على اسم الشرط والمحذوف كالملفوظ والتقدير من بعد إكراههم إياهن.
ورده أبو حيان بأنهم لم يعدوا في الروابط الفاعل المحذوف للمصدر في نحو هند عجبت من ضرب زيد وإن كان المعنى من ضربها زيدًا فلم يجوزوا هذا التركيب ولا فرق بينه وبين ما نحن فيه، وقيل: جواب الشرط محذوف والمذكور تعليل لماي فهم من ذلك المحذوف والتقدير ومن يكرههن فعليه وبال إكراههن لا يتعدى إليهن فإن الله من بعد إكراههن غفور رحيم لهن، وفيه عدول عن الظاهر وارتكاب مزيد إضمار بلا ضرورة، وكون ذلك لتسبب الجزاء على الشرط ليس بشيء.
وقال في البحر: الصحيح أن التقدير {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} لهم ليكون في جواب الشرط ضمير يعود على اسم الشرط المخبر عنه بجملة الجواب ويكون ذلك مشروطًا بالتوبة، وفيه إخلال بجزالة النظم الجليل وتهوين لأمر النهي في مقام التهويل وأمر الربط لا يتوقف على ذلك، ومثله ما قيل: إن التقدير لهما فالوجه ما تقدم، والجار والمجرور في قراءة من سمعت قال ابن جني: متعلق بغفور لأنه أدنى إليه ولأن فعولًا أقعد في التعدي من فعيل، ويجوز أن يتعلق برحيم لأجل حرف الجر إذا قدر خبرًا بعد خبر، ولم يقدر صفة لغفور لامتناع تقدم الصفة على موصوفها والمعمول إنما يصح وقوعه حيث يقع عامله وليس الخبر كذلك، وأيضًا يحسن في الخبر لأن رتبة الرحمة أعلى من رتبة المغفرة لأن المغفرة مسببة عنها فكأنها متقدمة معنى وإن تأخرت لفظًا والمعنى على تعلقه بهما كما لا يخفى، وتعليق المغفرة لهن مع كونهن مكرهات لا إثم لهن بناءً على أن المكره غير مكلف ولا إثم بدون تكليف، وتفصيل المسألة في الأصول قيل: لشدة المعاقبة على المكره لأن المكرهة مع قيام العذر إذا كانت بصدد المعاقبة حتى احتاجت إلى المغفرة فما حال المكره وللدلالة على أن حد الإكراه الشرعي والمصابرة إلى أن ينتهي إليه فيرتكب ضيق والله تعالى يغفر ذلك بلطفه.
وقيل: لغاية تهويل أمر الزنا وحث المكرهات على التشبث في التجافي عنه أو لاعتبار أنهن وإن كن مكرهات لا يخلون في تضاعيف الزنا عن شائبة مطاوعة بحكم الجبلة البشرية.
{وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ ءايات مبينات}.
كلام مستأنف جىء به في تضاعيف ما ورد من الآيات السابقة واللاحقة لبيان جلالة شؤونها المستوجبة للإقبال الكلي على العمل بمضمونها، وصدر بالقسم المعربة عنه اللام لإبراز كمال العناية بشأنه أي وبالله لقد أنزلنا إليكم في هذه السورة الكريمة آيات مبينات لكل ما لكم حاجة إلى بيانه من الحدود وسائر الأحكام والآداب وغير ذلك مما هو من مبادىء بيانها على أن {مبينات} من بين المتعدي والمفعول محذوف وإسناد التبيين إلى الآيات مجازي أو آيات واضحات صدقتها الكتب القديمة والعقول السليمة على أنها من بين بمعنى تبين اللازم أي آيات تبين كونها آيات من الله تعالى، ومنه المثل قد بين الصبح لذي عينين.
وقرأ الحرميان وأبو عمرو وأبو بكر {مبينات} على صيغة المفعول أي آيات بينها الله تعالى وجعلها واضحة الدلالة على الأحكام والحدود وغيرها، وجوز أن يكون الأصل مبينًا فيها الأحكام فاتسع في الظرف بإجرائه مجرى المفعول.
{وَمَثَلًا مّنَ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُمْ} عطف على {ءايات} أي وأنزلنا مثلًا كائنًا من قبيل أمثال الذين مضوا من قبلكم من القصص العجيبة والأمثال المضروبة لهم في الكتب السابقة والكلمات الجارية على السنة الأنبياء عليهم السلام فينتظم قصة عائشة رضي الله تعالى عنها المحاكية لقصة يوسف عليه السلام وقصة مريم رضي الله تعالى عنها حيث أسند إليهما مثل ما أسند إلى عائشة من الإفك فبرأهما الله تعالى منه وسائر الأمثال الواردة في هذه السورة الكريمة انتظامًا أوليًا، وهذا أوفق بتعقيب الكلام بما سيأتي إن شاء الله تعالى من التمثيلات من تخصيص الآيات بالسوابق وحمل المثل على القصة العجيبة فقط {وَمَوْعِظَةً} تتعظون بها وتنزجرون عما لا ينبغي من المحرمات والمكروهات وسائر ما يخل بمحاسن الآداب فهي عبارة عما سبق من الآيات والمثل لظهور كونها من المواعظ بالمعنى المذكور، ويكفي في العطف التغاير العنواني المنزل منزلة التغاير الذاتي، وقد خصت الآيات بما يبين الحدود والأحكام والموعظة بما يتعظ به كقوله تعالى: {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ في دِينِ الله} [النور: 2] وقوله سبحانه: {لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ} [النور: 12] الخ وغير ذلك من الآيات الواردة في شأن الآداب؛ وقيدت الموعظة بقوله سبحانه: {لّلْمُتَّقِينَ} مع شمولها للكل حسب شمول الإنزال حثًا للمخاطبين على الاغتنام بالانتظام في سلك المتقين ببيان أنهم المغتنمون لآثارها المقتبسون من أنوارها فحسب، وقيل: المراد بالآيات المبينات والمثل والموعظة جميع ما في القرآن المجيد من الآيات والأمثال والمواعظ. اهـ.